لقد تصور الكثير من المواطنين والسياسيين الموريتانيين أن الإطاحة بالرئيس "المزمن" معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع في أغسطس عام 2005 ستكون نهاية لمرحلة طويلة من الاحتقان السياسي والضبابية المفرطة التي ظلت تظلل مستقبلا وطنيا كان يبدو قاتما في أعين الكثيرين؛ وأن مرحلة جديدة من وضوح الرؤية والتفاهم الوطني العريض على القضايا الأساسية للدولة والمجتمع قد بدأت مبشرة بمستقل مختلف: يسوده الانفتاح والتفاهم والتعاون على ترميم الأبنية المتصدعة، وعلى بناء أسس دولة حديثة يسهم فيه الجميع : كل من موقعه ووفق إمكاناته وقدرته؛ دون إقصاء أو تهميش، ودون توترات ولا "توتيرات" غير مبررة..
إلا أن الأزمة السياسية المبكرة التي عرفتها البلاد منذ الأيام الأولى لمباشرة الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله مهامه؛ سرعان ما شكلت صدمة شديدة وخيبة أمل كبيرة للكثيرين؛ وهي الصدمة التي بلغت أوجها غداة الانقلاب العسكري الذي أطاح بذلكم الرئيس وهو لما يكمل بعد سنتين من مأموريته!!
ولم يتم التوقيع على "اتفاق داكار" الشهير إلا بعد أن أيقن الكثيرون أن مسار الأزمة السياسية القائمة آنذاك لن يقبل التوقف دون العصف بأسس الدولة وركائز استقرارها ومقومات وحدتها الداخلية؛ وهو ما جعل الجميع يستبشرون بذلك الاتفاق وينخرطون كلهم في مسلسل تطبيقه الذي تجسدت أبهى صوره في تنظيم الانتخابات الرئاسية في ظرف وجيز مما سمح بعودة إحدى أهم مؤسساتنا الدستورية التي عصف بها العسكريون فجر السادس من أغسطس 2008.
ولقد تصور كثيرون أن إنجاز ذلك الاستحقاق الانتخابي المعقد بنجاح لافت زكاه المراقبون الدوليون؛ فضلا عن أطراف الصراع الداخلي (معارضة وموالاة)، سيكون نقطة فارقة في التاريخ السياسي الوطني، وإعلانا عمليا لانتهاء عهد التوترات والمآزق السياسية التي ظل بلدنا رهينة لها على مدى ثلاثين سنة!!
لكنه كما يقال- "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"-؛ إذ سرعان ما أطل "عفريت التفاصيل" برأسه معلنا أن تجاوز عقبة الاستحقاق الرئاسي ليس إلا التطبيق الأولي للجانب "الشكلي" من "اتفاق داكار" الذي بدأ الحديث عن جوانب وملحقات وأساسيات منه يلزم تطبيقها؛ بل -أكثر من ذلكم- تستدعي حوار جديدا واتفاقا جديدا، لتكلل جهود تحقيق كل هذه المقتضيات بذلكم الحوار المجتزأ الذي قاطعته أغلب قوى المعارضة، وشارك فيه ثلاثة منها بعضها يعد من "أحزاب الوزن الثقيل"...
ودون الخوض في التفاصيل المملة لأسباب مشاركة هؤلاء في الحوار، ومقاطعة أولئك له؛ نكتفي بملاحظة أن النتيجة كانت دائما واحدة؛ وهي أن حالة الاحتقان السياسي التي جاء الحوار بغرض تجاوزها ظلت كما هي؛ ثم صارت أسوأ حالا بإعلان "المعارضة المقاطعة" أن جميع مطالبها وأهدافها قد تم اختزالها (بأسلوب شبيه بالمنهج الأكسيوماتيكي) في رحيل أو ترحيل الرئيس محمد ولد عبد العزيز ونظامه؛ طوعا أو كرها!!
وكانت نتيجة كل ذلك، أن عاد البلد للمربع الأول، ولذات المشكلات التي بدت كما لو أن "اتفاق داكار" لم يتجاوزها إلا قليلا؛ فعاد الجميع يتلمس مخارج جديدة لواقع قديم، ويبحث عن "البطل" الذي يحمل في يده عصا "الحل السحري" من داخل البلد هذه المرة؛ ودون حاجة للحلول السحرية العربية (طرابلس/ القذافي)، أو الإفريقية (داكار/ عبد الله واد)، ليمتزج "السحران" في عروبة وسمرة الزعيم مسعود ولد بلخير..
فهل تكون "حلولنا السحرية" أنجع من أخواتها العربية والإفريقية؛ خصوصا ونحن هم من عرفوا طويلا بأنهم "همزة الوصل" بين "السحرين" و"الساحرين"؟؟!! نتمنى ذلك.. لكن للواقع كلاما لا يجامل، ولا يتمنى، ولا يتخرص...
كاريزما مسعود المرغبة/ المنفرة!!
بغض النظر عن الاعتبارات السياسية الخاصة التي قد تكون وقفت وراء ابتعاد حزب التحالف الشعبي التقدمي وزعيمه عن حلفائه التقليديين، ودفعت الرئيس مسعود للدخول في حوار رفضه وما زال يرفضه أغلب أولئك الرفاق؛ فإن الرجل ظل مشهودا له على مدى تاريخه السياسي الطويل بكثير من صفات الحكمة، وفضائل الوطنية الجياشة التي لا يعادلها إلا ما عرف عنه أيضا من صلابة الموقف وبعد عن المجاملة في التعبير عما يراه ويقتنع به، ونعتقد أن "حكمة" كانت حاضرا بقوة عندما قرر الدخول في حوار مع السلطة، تماما كما كانت صراحته وجرأته المعهودة حاضرة خلف كل ما صدر عنه من انتقادات لاذعة لمخالفيه من رفاق المعارضة بلغت أحيانا درجات من الحدة لا لزوم لها على الإطلاق..
إن هاتين الصفتين الملازمتين لشخصية مسعود على "سجيتها" في ما نظن؛ هما ما سيشكل أهم ضمانات نجاح مبادرته، وأيضا دوافع تعثرها وفشلها!!
فقد تسببت صراحته النقدية مع "رفاق المعارضة المزمنة" في تعميق هوة الخلاف مع زعامات سياسية قد تكون مهيأة نفسيا وسياسيا لتقبل كل نقد موضوعي، والتغاضي عن كل تجريح ذاتي إلا أن يصدر ممن يحوم قريبا من حمى الرجل الذي تحول الصراع معه إلى "الثابت الوحيد" في جميع الاستراتيجيات والتكتيكات المعتمدة لدى قادة منسقية المعارضة الديموقراطية: إنه "الرئيس"، أو "الجنرال" محمد ولد عبد العزيز..
و"عقدة عزيز" في نفوس قادة المعارضة ليست عقدة عصية على الحل فقط؛ ولكنها عصية على الفهم أيضا؛ فقد أخفق هؤلاء القادة في اتخاذ موقف موحد من الرجل منذ اليوم الأول لانقلابه على الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله؛ حيث عجزوا عن ثني قادة بارزين منهم عن مؤازرته مثل الزعيم أحمد ولد داداه الذي سارع بدعم الانقلاب دون تنسيق مع أحد، ورحب بالحوار الذي دعا إليه العسكريون تحت عنوان "المنتديات العامة للديموقراطية"، وشارك فيه باندفاع دون أن يكون قد رسم هدفا لتلك المشاركة سوى أن ينتهي الحوار بتبني القادة العسكريين لخطة تنتهي بوصول زعيم العارضة الديموقراطية إلى سدة الحكم؛ وهو الهدف الذي سرعان ما تكشف له أنه غير متضمن في الأجندة السياسية للعسكر؛ فبدأ بلملمة أوراقه ورحل عائدا إلى رفاقه!!
وكما عجز قادة المعارضة عن الحيلولة دون دعم بعضهم للانقلاب (مثل أحمد ولد داداه، وصالح ولد حننا)، فشلوا أيضا في المشاركة بشكل جماعي في الحوار الذي دعا إليه العسكريون، وهو ما كان سيسمح لهم بفرض أجندات على الحوار غير تلك التي رسمها الانقلابيون؛ أو على الأقل الانسحاب منه جماعيا ورفض نتائجه رفضا كان سيكون تأثيره أكبر من تأثير رفض ولد داداه منفردا.. وهو نفس السيناريو الذي أعاد زعماء المعارضة رسمه بإحكام في التعامل مع الحوار الذي أجري منذ شهور، ويخشى أن يعيدوا رسمه مجددا في التعامل مع المبادرات المتداولة حاليا!
وعلى كل حال؛ فقد نجح قادة المعارضة مرة في المشاركة المتعاضدة في "حوار داكار"، وفي التوقيع عليه، وفي تطبيق نتائجه... ثم في رفض تلك النتائج والعودة للمواقف المشككة في شرعية عزيز؛ حتى بعد انتخابه رئسا للجمهورية!..
ومن هنا نبتت بذرة "عقدة قادة المعارضة" في نفس عزيز، وهي عقدة وإن بدت قابلة للفهم؛ لكنها تبدو عصية على الحل والتجاوز..
وبين هاتين "العقدتين" سيتحرك الزعيم مسعود بصعوبة بالغة كالجائل في حقل ألغام؛ وهو ما يعني أن عليه أن يتشبث إلى أبعد الحدود بفضيلة "الحكمة" التي يشهد له بها، على أن يترك فضائل الشجاعة والصراحة والوضوح النقدي تتوارى للخلف بعيدا، ولو إلى حين.
وسيجد ولد بلخير في الواقع (الذي لا يأبه للعواطف ولا الأماني ولا النوايا الحسنة) وقائع بينة ستكون له عونا، ما صدق، وتجرد، وصبر.. وإن من شروط صدقه أن لا يكون تحركه بإيعاز من أحد، ولا خدمة لأي طرف (؟؟):
1) ورطة المعارضة ومأزق النظام
- صحيح أن قادة المعارضة (رغم ترحيبهم المبدئي بمبادرة مسعود) إلا أنهم سارعوا جميعا لإعلان شروطهم الضامنة لإفشالها من خلال تأكيد تشبثهم بمطلب "رحيل النظام"، وهو مطلب يتناقض جملة وتفصيلا مع أسس أي مبادرة جدية لحل الأزمة حلا سياسيا وسلميا..
غير أن تلك الشروط لا تستطيع إخفاء حقيقة الورطات التي وضعت "المعارضة المقاطعة" نفسها في حبالها برفعها شعار الرحيل، والتي لا شك أنها تدرك جيدا أن واقع الحال لم يعد يسمح لها بتضييع أي فرصة للتراجع عن هذا المطلب والخروج من ورطته.
ولقد ضيعت هذه المعارضة فرصا عديدة من قبل وعجزت عن استغلالها في الوقت والأسلوب المناسبين؛ حيث ضيعت الفرصة الأولى عندما قبلت باتفاق داكار؛ دون أن تكون مستعدة لتقبل جميع النتائج التي قد تترتب عليه وفي مقدمتها احتمال كسب عزيز للرهان الانتخابي وتحوله من قائد انقلاب إلى رئيس للجمهورية.. ورغم أن تشبث المعارضة برفض الانقلاب وكل ما يترتب عليه، والامتناع عن التحاور مع قادته، والتأكيد على حتمية رحيلهم وعودة الرئيس المنتخب سيد محمد ولد الشيخ عبد الله...
رغم أن مثل هذا الموقف قد لا يضمن إفشال الانقلاب، إلا أنه سيظل موقفا مقبولا ومفهوما ومبررا سياسيا وأخلاقيا؛ عكس كل المواقف المطالبة برحيل رئيس منتخب بناء على اتفاق مع المطالبين برحيله!!
ثم ضيعت "المعارضة المقاطعة" فرصة أخرى عندما "استمعت" باستعلاء لدعوات "الرحيل" التي أطلقها ما عرف بشباب "ثورة 25 فبراير" في لحظة مبكرة من بداية "الربيع العربي" ومباشرة بعيد سقوط نظامي بن علي ومبارك بأقل التكاليف والأثمان المتصورة؛ حيث انتظرت هذه المعارضة حتى تبدت مخاطر ذلك "الربيع" في اليمن، وليبيا، وسوريا، ونجح النظام في احتواء شباب "25 فبراير"، لتقبل أحزابها حمل ذات الشعار الذي تأففت من أن تتابع فيه شبابا لأنهم لم يعلنوا الولاء لها يوم حملوا شعار: "لا نقابة لا أحزاب.. ثورتنا ثورة شباب".. وها هي الفرصة الثالثة يفتحها رئيس البرلمان الموريتاني لإخراج أطراف الأزمة من مأزقها، فهل تضيع أيضا كسابقتيها؟؟
- ليست منسقية المعارضة وحدها التي لها مصلحة في نجاح مبادرة مسعود وإنهاء حالة الاحتقان السياسي القائمة؛ بل إن مصلحة النظام قد تكون أكبر؛ ليس فقط لأن من شأن ذلك أن يخفف الضغط على هذا النظام ويسمح له بالتفرغ لإنجاز كامل البرنامج الانتخابي الذي على أساسه حمله هذا الشعب أمانة قيادة سفينة البلد لخمس سنوات متواليات، ولكن أيضا لأن الرئاسة هي بالدرجة الأولى مسؤولية والتزام، ولأن أنظمة الحكم بطبيعتها "خوافة" من كل ما من شأنه توتير الأجواء أو المساس بالأمن العام؛ هذا فضلا عن تطلع جميع البلدان (وخصوصا النامية منها) لجلب الاستثمارات الخارجية والتي يعتبر أكبر منفر لها هو انعدام الاستقرار السياسي والأمني، وقد يكفي أصحابَ تلك الاستثمارات للقول بانعدام الاستقرار في أي بلد أن يروا أبسط المؤشرات عليه؛ حتى لو كانت مفتعلة أو مبالغا فيها؛ فكيف إذا كانت أمرا واقعا، وحقيقة لا تخطئها العين!!.
2) هل تستدعي "براعمٌنا البريئة" تدخلا أجنبيا!!
وحدهم الأطفال عندما يختلفون لا تزيدهم محاولات التفاهم إلا خلافا واختلافا ما لم يتدخل الكبار لإصلاح ذات بينهم، وفرض تنازل بعضهم لصالح بعض؛ ترغيبا أو ترهيبا، أو بهما معا.. وتلك قاعدة عامة ربما يكون الاستثناء الوحيد الذي يصححها هو حال "كبار" القادة السياسيين الموريتانيين الذين أثبتت التجارب عجزهم الدائم عن حل خلافاتهم المزمنة إلا بإقصاء بعضهم بعضا، أو بفرض التعايش عليهم بإرادة "كبار" من خارج الميدان الوطني.
ولهذا السبب الغريب تحديدا وضعت عبارات من قبيل (السحر والسحري) بين مزدوجتين؛ في إشارة إلى أن "عقلاء" بلدنا عندما يعجزون عن اكتشاف أسباب مادية أو معقولة لأي مشكل أو أزمة، ويحتارون في فهم أمر ما؛ فإنهم يستنجدون مباشرة إما بالرقي، وإما بالسحر، أو بالشعوذة..
وليس أكثر مدعاة للحيرة من فهم "الحكمة" التي بمقتضاها قبل قادة بلدنا ونخبه السياسية أن يجدوا لأنفسهم فسحة من الوقت للتسلي بالخلافات الغبية، ولاصطناع المعارك الوهمية التي لا تهم هذا البلد ولا تنفعه في مواجهة أي من التحديات الجدية التي تتهدد مستقبله: الفقر، والجهل، والبطالة، والإرهاب، وضعف النسيج الاجتماعي، والمطامع الخارجية، والتغيرات الدولية المهولة... و...
و"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"..
محفوظ الحنفي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire